قل يا عبادى الذين اسرفوا على انفسهم.......
--------------------------------------------------------------------------------
كان صاحبي يسار قد نشأ في طاعة الله ، ، حتى عرف بين أقرانه بالراهب ، وسمَّاه بعضهم : (( حمامة المسجد )).
وكان كثير الصمت ، قليل الكلام ، ولكن حديثه ينفذ إلى القلب ، يسحر السامع ويأخذ بلبه ، ويستولي عليه .
ولقد علمت بتفاصيل القصة بعد حين وسأذكرها كلها من البداية إلى النهاية ، وهي والحق يقال ، لو اطَّلع عليها البشر ، لكانت عبرة لمن اعتبر .
وبداية القصة ،... أنه كان في بغداد فتاة تركية يتيمة اسمها حسناء امتهنت الغناء بعد وفاة والدها وكان يُعقد في بيتها مساء الثلاثاء من كل أسبوع ، مجلس للطرب والغناء ، وكان يحضره شباب من القوم ، منهم حكيم بن محمود ، وحسَّان بن معيقيب ، وحبيب بن مسعود ، وغيرهم وقد تأخر ذات يوم عن الحضور في الوقت المعين سعيد بن منصور , وعندما حضر بادره الجميع بقولهم : أين كنت ؟
فأجابهم وهو يتخفف من بعض ملابسه ، وعلامات التأثر بادية على وجهه : التقيت هذه الليلة بيسار ..
وسرت في نفوس القوم هزَّة خفية ، وساد المكان سكونٌ شامل ونظرت حسناء بعينيها اللوزيتين ، وقاربت ما بين حاجبيها ، وسألت : ومن يسار هذا ؟
فأجابها حبيب بن مسعود ، وكان على صلة قديمة بيسار : أنا أعرف القوم بحاله , وأخذ يحدثها بكل ما يعرف عنه ,عن عبادته وتواضعه وحسنه وأخلاقه وعذوبة منطقه .
وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وقال : ذلك الرجل عرف الطريق إلى ربه ..
فأنصتت حسناء بكل اهتمام ، وأخذت بما سمعت ، وعزمت في قرارة نفسها على أن تحظى به ..
ومالت حسناء برأسها ، وسألت حبيب بن مسعود : هل هو متزوج ؟
واستطاع حكيم ، أن يدرك ما يدور في خلد حسناء ، فقال وهو يضحك : لا سبيل لك إلى يسار .
فالتفتت إليه متحدِّية وقالت : سوف ترى .. ورفعت حسناء يدها ، تتحسَّس القرط اللؤلئي الذي يزين أذنها ، ثم نادت الخادم ، فأقبل ، وقد أحضر لها رقعة ، كتبت عليها شيئًا وطوتها بعناية فائقة ، ولفَّتها في منديلها المعطَّر ، ثم التفتت إلى سعيد بن منصور وقالت : أين نجد يسارًا في هذه الساعة ؟
فأجابها وهو يشير بيده : رأيته متجهًا إلى بيت القاضي بعد صلاة العشاء .
وقبل أن يخرج الخادم صاح حبيب بن مسعود منفعلاً ، وأخذ يردد : إن دون الوصول إلى اليسار سبعة أبواب عليها سبعة أقفال من حديد .
وما هي إلا ساعة ، حتى عاد عربيد بوجهٍ بغير الوجه الذي ذهب به ، وناولها المنديل دون أن يتفوَّه بكلمة . فأخرجت الرقعة ، وألقت عليها نظرة خاطفة ، ثم قفزت بثوبها الأبيض الفضفاض ، وشعرها الكستنائي الطويل الناعم وهي تحمل الرقعة بيدها اليمنى وتقول : هذا هو القفل الأول قد انفتح .
وعلت الدهشة وجه حبيب ، ولم يصدق سعيد بن منصور أذنيه ، وبقي حسَّان ينظر إليها دون أن ينطق ، أما حكيم ، فقد أخذ يصفق ويصيح , أما حسناء ، فقد استمرت كالفراشة الجميلة تدور في المكان ، وهي تحمل الرقعة بيدها وتقول : هذا هو القفل الأول قد انفتح .. انظروا .. وألقت الرقعة على المنضدة ، فتسابقت الأيدي للحصول عليها والاطِّلاع على ما فيها .. فكان حكيم أسرع القوم إليها ، فخطفها وأخذ يلوح بها وهو يضحك وينظر إلى حبيب بن مسعود ويقول :
-هذا هو صاحبك قد وقع , وقبل أن يقرأها ، وبخفة متناهية أدهشت الجميع ، خطفتها حسناء من يده ، وجذبت عربيدًا وذهبت إلى غرفة مجاورة . واستحثت حسناء الخادم وهي تقول :
-أخبرني يا عربيد .. أخبرني بكل ما رأيت , وكانت حسناء متلهِّفة لسماع حديثه ، فهزِّته قائلة :
- ماذا دهاك يا عربيد .. تكلم ؟
فأجاب بصوت هادئ عميق النبرات : يا سيدتي .. إن الوصول إلى القمر ، لأهون ألف مرة من الوصول إلى يسار ..
فأطرقت حسناء ، وتغير لونها ، وقالت بصوت هادئ خافت ودود : حدثني يا عربيد .. أخبرني بكل شيء .. بكل ما رأيت وسمعت . قال ، وقد انقاد إلى لهجتها : رأيت نازك الرومي ، خادم القاضي ، يهم بدخول الدار ، فاستوقفته ، وأخبرته بأني أريد أن أقابل يسارًا على انفراد . فأخذ بيدي إلى غرفة قريبة من الديوان .. وانتظرت حتى أقبل يسار . متوسط القامة ، أزهر اللون ، تجلله المهابة ، ويعلوه الوقار ،.. لقد تمنَّيت من كل قلبي لوعُدت أدراجي ، ولم أفاتحه .. وسكت عربيد ، وكأنه يريد أن يستحضر كل لحظة عاشها مع يسار .. واهتزت ذبالة القنديل على نسمة باردة ، تسللت من شق الباب .. وتحرك ظل حسناء على الجدار... كانت حسناء تصغي إليه باهتمام ، وقد سحرها بوصفه ، وملك عليها مشاعرها ومضت تستحثه : وماذا بعد .. تكلم يا عربيد .. ! ! !
قال : بدأني بالسلام .. ثم قال : ما اسمك ؟ قلت : عربيد .
فلم يعجبه هذا الاسم ، ونظر إليَّ ساعة ثم قال : بل أنت مريد .. أتدري من هو مريد ؟ ولما لم أجب ، مضى يقول : المريد هو صاحب الإرادة القوية المريد هو الذي يريد الوصول إلى الله ، بقلب سليم . اتق الله يا مريد واجتنب المعاصي .
وعاد عربيد إلى السكوت .. ولم يدر ما كان يعتمل في صدر حسناء التي استبدَّ بها الشوق إلى معرفة المزيد عن يسار حتى نَسِيَت نفسها ، ونَسِيَت الضيوف الذين كانوا ينتظرون عودتها ..وهزَّته حسناء . وقالت بصبرٍ نافد :
- تكلم . تكلم يا عربيد .. لا تسكت .
فنظر إليها وقال : مددت يدي بالرقعة ، بتردد ، وتخاذل ، وخجل .. فتناولها ، وألقى عليها نظرة .. فتغيَّر لونه ولكني أسرعت أقول له ، قبل أن أسمع منه ما يؤلمني : إنها تريد أن تتحدث إليك بمشكلتها يا سيدي .. إنها لا تريد أن يطَّلِع عليها غيرك .
فرفع رأسه ، وقد سُرِّيَ عنه بعض ما به وقال : لتكتب مشكلتها . ثم وقَّع بكلمة واحدة : اكتبيها . ألقى الرقعة ، وعاد من حيث أتى .
فصفقت حسناء بيدها ، ودارت حول نفسها طربًا وهي تقول : لقد